في زمن صارت فيه الإحصاءات الباردة هي لغة الحكم، وباتت الأرقام تحجب وجوهاً بشرية تختفي خلفها، جاء قرار اللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، ليذكرنا بأن السياسة الناجحة هي تلك التي تضع الإنسان في القلب.
فالقضاء على سيارات "البيك أب" العشوائية، واستبدالها بمركبات "الميكروباص" الأكثر أماناً، لم يكن مجرد تغيير في وسائل النقل، بل كان قراراً إنسانياً ينبض بروح المسؤولية، ويرسم ملامح قيادة تؤمن بأن حياة المواطنين ليست رقماً في جدول، بل هي أمانة.
لطالما كانت حوادث الطرق في صعيد مصر، وخاصة محافظة المنيا، جرس إنذار يقرع دون استجابة كافية، فسيارات "البيك أب"، رغم انتشارها، تحولت إلى كوابيس تطحن الأرواح بين لحظة وأخرى، إطارات بالية، وسرعات جنونية، وغياب لأبسط معايير السلامة، جعلت من كل رحلة فيها رهاناً مع الموت، وراء كل حادث، ثَمَّة أسرة تتداعى، وأم تفقد عائلها، وأطفال يُرمَون في غياهب اليتم.
هنا، لم يكتف محافظ المنيا بقراءة التقارير الرسمية، بل استمع إلى أصوات المكلومين، رأى الدموع في عيون الأمهات، ووقف عند جروح المجتمع التي لا تُدمّل، فجاء قراره حاسماً: "لا مجال للمساومة على حياة الناس".
في قرار كهذا، كان بإمكان المحافظ أن يتبع النهج البيروقراطي المعتاد: يصدر تعميماً، ويشكل لجنة، ثم ينتظر النتائج التي قد لا تأتي، لكن اللواء كدواني اختار الطريق الأصعب، لأنه يعرف أن كل يوم تأخير يعني أرواحاً جديدة تُزهق، لقد تحرك بقلب الأب قبل عقل المسؤول، فلم يرض بأن تظل المنيا رهينة لوسيلة نقل تُهدّد أبناءها.
اللافت في القصة أن المحافظ لم يكتف بحظر "البيك أب"، بل قدّم البديل: "الميكروباص"، خطوة تظهر وعياً بأن الحل ليس في المنع الجاف، بل في التغيير المدروس، فبينما تُوفّر المركبات الجديدة قدراً أكبر من الحماية للمواطنين، فإنها أيضاً تحفظ مصدر رزق السائقين، وتضمن استمرارية الحركة اليومية للناس. هنا تتجلّى حكمة القائد الذي يرفض أن تكون التنمية على حساب الإنسان، أو أن يكون الإنسان ضحية للتنمية.
اليوم، تقدم المنيا درساً في أن القيادة الحقيقية ليست في البناء الأسمنتي وحده، بل في بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم، فما فعله المحافظ لم يكن انتصاراً لوجستياً فحسب، بل انتصاراً أخلاقياً، إنه إعلان أن قيمة الحكومة تُقاس بمدى قدرتها على أن تشعر المواطن بأنه مقدر، مصان، محفوظ.
في زحام المشاريع الكبرى والافتتاحات الضخمة، يبقى التغيير الأعمق هو ذلك الذي يمس حياة الناس البسطاء، فشكراً لمحافظ رأى في كل حادث مأساة إنسانية قبل أن يكون رقماً، وشكراً لقرار جعل من طرق المنيا ساحات أمان لا مقابر جماعية.
اللواء عماد كدواني لم يُغيّر وسائل النقل، بل غيّر ثقافة كاملة، ثقافة تعلق الإنسان فوق كل اعتبار، وهذه بعد كل شيء، هي السياسة بأجمل معانيها.
5/9/2025
5/9/2025
5/9/2025
5/8/2025
5/8/2025
(الأول نيوز) ، هو موقع إخباي شامل، يصدر عن شركة الأول للنشر والخدمات الإعلامية، ومقره محافظة المنيا جمهورية مصر العربية.
البريدالإلكتروني الخاص بنا: alawwalalawl@gmail.comالهاتف: الهاتف: 01110380234